الفقيد بَصَمَ على تاريخٍ حافلٍ بالعطاء والبَذْلِ في سبيل تنزيل الأفكار الوطنية الأصيلة
مدرسة السي امحمدبوستة علمتنا الثَّبَاتَ على القناعات الوطنية التي يوجد في قلبها مصلحة البلاد والعباد
تحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس، نظم حزب الاستقلال وأسرة المرحوم المجاهد امحمد بوستة، مهرجانا خطابيا بمناسبة الذكرى الأربعينية للفقيد، يوم الجمعة 31 مارس 2017 بمسرح محمد الخامس بالرباط. وبعد تلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، وتلاوة سورة الفاتحة على روح فقيد الوطنية المجاهد امحمد بوستة، تناوب على منصة الخطابة عدة متدخلون، ومنهم الأخ حميد شباط الأمين العام لحزب الاستقلال ، في ما يلي النص الكامل لكلمته:
بسم الله الرحمن الرحيم
«مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا »
صدق الله العظيم
الأخوين عضوي مجلس الرئاسة؛
أفراد أسرة الفقيد السي امحمدبوستة و جموع محبيه؛
الأخوات و الإخوة أعضاء اللجنة التنفيذية؛
الأخوات و الإخوة أعضاء المجلس الوطني؛
أيتها السيدات و السادة؛
بكثير من الحزن، نخلِّد اليوم أربعينية الراحل السي امحمدبوستة عضو مجلس رئاسة حزب الاستقلال والأمين العام الأسبق للحزب، وهي مناسبة أليمة، لكننا من المؤمنين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا “إنا لله وإنا إليه راجعون “، هكذا شاء الله قدر وفعل.. ونحن عندما نقف اليوم لنستحضر مَنَاقِبَ وجهادَ الراحل السي امحمدبوستة، فإننا لا نتحدث عن فرد ولا نتحدث عن حزب ولا نتحدث عن اختيار سياسي وإيديولوجي، ولكننا نتحدث عن جيل وعن تجربة حزبية وطنية، وعن وطن ومسارات وتاريخ وأحداث، لأن السي امحمد واحد من الرجال الذين طبعوا مسار بلادنا، وعايشوا أهم وأدق المراحل وأصعبها، وقدر الله أن يعيش كل هذه السنين ليكون شاهدا على العصر، ونموذجا وقدوة في العمل الوطني منذ أن كان بجوار الزعيم علال الفاسي، وعندما اختاره رفاقه ليكون أول أمين عام للحزب بعد رحيل رئيسه، فكان السي امحمدبوستة واحدا من الزعماء الأحياء لحزب الاستقلال طيلة عقدين قاد فيهما حزب الاستقلال، في بحر من التموُّجات التي عرفتها السياسة والاقتصاد، وفي خضم التحولات الكبرى التي عرفها مجتمعنا من منتصف السبعينات إلى منتصف التسعينات، فكان رحمة الله عليه قادرا على أن يَبْصُمَ ذلك العبور الطويل في قيادة الحزب، بطابعه وأسلوبه الخاص، حتى صار مدرسةً قائمة الذات.
إننا عندنا نتحدث عن السي امحمدبوستة، فإننا نتحدث عن رجل جمع كثيرا مما تفرق في غيره، فهو رجل القانون والسياسة وفي ذات الوقت هو محب الفلسفة ودارسها،فهو السياسي الممارس وهو الحقوقي الذي ظل مكتبه دائما قبلة للمظلومين، وهو النقيب الذي كانت مرافعاته في قضايا الرأي والحريات، مراجع لايمكن لكل دارس لتاريخ المحاكمات السياسية ومحاكمات الرأي، أن يقفز عليها أو يتجاهلها، فكان الراحل وهو أمين عام للحزب، حريصا على الدفاع عن حرية التعبير، ليس فقط بصفته الحزبية والسياسية، بل أيضا بصفته المهنية والحقوقية، وعندما كانت “العلم” و”الرأي” تتعرضان للمضايقات والمحاكمات، كان السي امحمد سندا معنويا أولا لهيئتي التحرير في المقر التاريخي لمؤسسة الرسالة بشارع علال بن عبدالله وسط الرباط، وهو الشارع ذاته الذي كان ولايزال يحتضن مكتبه الذي تخرج منه عدد كبير من المحامين البارزين، لقد كان السي امحمد يحرص كل الحرص على أن يكون قريبا من صحافة الحزب، ومساندا لها في مختلف المحن التي واجهتها.
أيتها السيدات و السادة؛
لقد كان السي امحمد واحدا من الشهود الذين عايشوا تحولات مفصلية في تاريخ الحزب والحركة الوطنية مما كان لها تأثير كبير على المسار السياسي والديمقراطي ببلادنا، وكان رحمه الله واحدا من أشد المقربين من الزعيم علال الفاسي، وفي صحبته كان شاهدا على القرارات والمواقف الكبرى والخالدة التي اتخذها الزعيم علال، دفاعا عن نضال الحركة الوطنية، وتشبعا بأهدافها الكبرى، المُتَمَثِّلَةِ في السيادة الوطنية على كافة التراب الوطني، والسيادة للشعب عبر مؤسسات ديمقراطية في ظل الملكية الدستورية، مع الحرص الكبيرعلى وحدة القوى الوطنية الديمقراطية، فكان السي امحمدبوستة واحدا من كبار المؤيدين لهذه الاختيارات الكبرى والمرجعية، ولكل التدابير والقرارات التي كان الحزب مجبرا على اتخاذها في لحظات صعبة من تاريخ بلادنا، هكذا كان الراحل الكبير مرنا ورجل توافقات، لكنه في ذات الوقت كان حازما وصارما عندما يتعلق الأمر بالثوابت والمبادئ التي لم تكن مطروحة لأنصاف الحلول، وكان يعلم أن في قضايا الوطن ليس هناك مجال للحياد، كما كان يميز دائما أن الأمر في النهاية ليس شخصيا، لهذا لم يكن من المنتصرين للقطيعة سواء مع الدولة أو باقي الأطراف السياسية، وهو ما جعل له احتراما حقيقيا في دوائر الدولة ومن أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ولعل جنازة الراحل الكبير وحضوركم اليوم، خير دليل على المكانة التي كانت لفقيدنا حيا، وبالتأكيد ستظل له حتى بعد مماته..
السي امحمدبوستة، الذي شكلت وفاته خسارة كبرى للوطن وللحزب، بَصَمَ على تاريخٍ حافلٍ بالعطاء والبَذْلِ في سبيل تنزيل الأفكار الوطنية الأصيلة، وفي صلبها بناء دولة الحق والمساواة، الدولة الديمقراطية التي كانت في أفق الاستقلال من الاستعمار الفرنسي، لبناء دولة تعيش في مستوى ما تعيشه البلدان المتقدمة، فكان السي امحمدبوستة مناضلا من طينة خاصة ومختلفة، وظل طيلة السنوات التي قاد فيها الحزب نموذجا للعطاء والبدل، والثبات على المبدأ والعقيدة والوفاء لمبادئ الحزب والدفاع عن ثوابت البلاد، وكان أيضا وفوق ذلك، مناضلا ملتزما بقضايا الشعب، لايخاف في قول الحق، وكان في صف الزعيم علال عند الانسحاب من حكومة 1963، وفي الاعتراض على الحزب الأغلبي وعلى إعلان حالة الاستثناء، والنضال المَرِير الذي عرفته بلادنا بعد إعلانها، ومع ذلك استطاعت بلادنا أن تَعْبُرَ بداية السبعينات بسلام، رغم المخاطر التي أحاطت بها، لأن الوطنيين كانوا كعادتهم إلى جانب الشرعية وثوابت البلاد، يبحثون دائما عن الوصل، وليس القطيعة.
ونذكر للكبير السي امحمدبوستة إرادته الكبيرة في أن يحصل المغرب على الانتخابات التي تحترم إرادة الناخبين، وليس الانتخابات التي أبدع في وصفها عندما قال “الانتخابات المخدومة”، إنها مدرسة السي امحمدبوستة التي علمتنا الثَّبَاتَ على القناعات الوطنية التي يوجد في قلبها مصلحة البلاد والعباد.
إننا وبلادنا وهي تفقد هذا الوطني الكبير في لحظة سياسية فاصلة في تاريخها، تجعل الخسارة أكبر والحزن أشد، ولكن المبادئ والأفكار لا تموت، ونحن سنظل أوفياء لهذا التراث الكبير، ولهذه الأمانة التي تُطَوِّقُ عُنُقَنَا جميعا.
لقد كان السي امحمد، عابرا للأجيال والفئات الاجتماعية، بَكَاهُ الصغير والكبير، والكل يسعى لكي يتعرف عن وجه من وجوه حياته المختلفة، وقد أظهرت الشهادات التي قيلت فيه بعد وفاته، أنه كان متعددا في فَرَادَتِهِ، فكان صديق الفقهاء والعلماء والسياسيين والحقوقيين والمثقفين والإعلاميين والاقتصاديين ورجال الأعمال…هذه الأبعاد المتعددة هي ما أعطت لنا حالة إنسانية وسياسية إسمهاامحمدبوستة، نادرا ما يجود الزمان بها على أمة من الأمم، لهذا فإننا نشعر رغم مرارة الفراق وألمه، بكثير من الفخر والاعتزاز أننا كنا ممن سمحت لهم الأقدار أن يعيشوا فترات ومراحل مع فقيدنا الكبير، وهنا لا بد أن أذكر بأننا عشنا معه عن قرب في واحدة من أخطر مراحل بداية التسعينات من القرن الماضي، عندما إنهار جدار برلين، وبدأت القوى الوطنية الديمقراطية تبحث عن وحدة الصف والمبادرة، لقد كان السي امحمد فعلا نموذجا لفكرة الزعيم القائد، حيث عشنا معه أهم السنوات في تاريخ الصراع والمواجهة من أجل إرساء نظام ديمقراطي، إذ كانت خطاباته وكلماته ومداخلاته في البرلمان دروسا نابضة بالحياة، زرعت فينا أجمل القيم وفي صلبها الثبات على المبدأ والوفاء لخط النضال.
كانت الفترة من تاريخ انهيار جدار برلين إلى تشكيل حكومة التناوب التوافقي، فترة حاسمة في تاريخ النضال والكفاح من أجل الديمقراطية في المغرب، وكان السي امحمدبوستة إلى جانب الراحلين الكبيرين السي عبد الرحيم بوعبيد والسي علي يعتة، رفقة السي بنسعيدأيت يدر أطال الله في عمره، يشكلون قادة للفكر والسياسة والقيم، وكان السي بوستة وفيا لما آمن به دائما وما شكَّلَ وصيةً من الزعيم علال، ألا وهي وحدة الصف الوطني، وعندما تأسست “الكتلة الديمقراطية”، كنا نشعر بالسي امحمد في أوج عطائه لأنه حقق واحدا من الأهداف الكبرى التي عاش من أجلها، إلى جانب إخوانه الراحلين الكبيرين أبوبكر القادري والهاشمي الفيلالي، وأخويه السي امحمد الدويري والسي عبد الكريم غلاب أطال الله في عمرهما، فقد كان السعي إلى وحدة القوى الوطنية هي إحدى وصايا الزعيم علال الفاسي.
هذه الوحدة لم تكن تقتصر فقط على الجبهة السياسية، بل شملت كل جبهات الفعل النضالي فقد كان السي امحمد يواكب معنا الاستعدادات للإضراب العام لسنة 1990، بل كان مُصِرًّا على أن يكون العمل مشتركا بين الاتحاد العام للشغالين بالمغرب والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، ونفس الشيء في الجبهة الحقوقية من خلال العمل المشترك الذي جمع كل من العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، لقد كان قائدا يجد نفسه في العمل الوحدوي، فكانت الكتلة الديمقراطية باكورة عمل صادق ودؤوب من أجل تحقيق مكتسبات على الواجهة الدستورية والسياسية وبالنتيجة تهييئ مناخ جديد، يخرج البلاد من مخاطر ما أسماه المغفور له الراحل الحسن الثاني بالسكتة القلبية…
وحتى وهو في قمة الرهان على التوافق، فإنه لم يتردد في مقاطعة التصويت على دستور 1992 والاعتذار عن قيادة الحكومة في وجود الراحل إدريس البصري، والتصويت بنعم سياسية على دستور 1996، لتتدارك بلادنا فرصة بداية الانتقال الديمقراطي في وقت كانت الرياح تعصف بجيراننا، مما حتَّمَ تقديم تنازلات مؤلمة لفائدة الوطن، وعندما تمت معاقبة الحزب في الانتخابات التشريعية لسنة 1997، شعرالسي امحمدبألم كبير وقرر أن يغادر موقع المسؤولية الأولى في الحزب بكامل إرادته، فكانت مغادرته للأمانة العامة للحزب، حالة فريدة في مشهد حزبي لم يكن يعرف طريقا لتغيير قيادته إلا بالموت، هكذا حتى عندما غادر المسؤولية كان شامخا يصنع الحدث، وظل بذلك الشموخ والاحترام إلى أن إختاره الله تعالى إلى جواره.
أيتها السيدات، أيها السادة،
لا يفوتني وأنا أتحدَّثُ عن الكبير السي امحمدبوستة، أن لا أذكر بمواقفه الخالدة في قضية الوحدة الترابية لبلادنا، وكيف حافظ بأمانة على إرث الزعيم علال الفاسي في هذا الإطار، ويكفي أن رحيل الزعيم علال وهو برفقته، كان في إحدى المهام الوطنية التي كان يقوم بها في عدد من الدول بتنسيق كامل مع جلالة المغفور له الحسن الثاني، حيث شاءت الأقدار أن يغادر الزعيم علال هذه الدنيا وهو يشرح في بوخاريست قضية الوحدة الترابية للمغرب، فكان الفقيد السي امحمدبوستة، نعم المدافع عن تلك القناعات التي تعكس بجلاء المعرفة الدقيقة بتاريخ بلادنا وبمنظوره للوحدة الترابية، وقد ترك في ذلك إرثا من المواقف والخطب والتصريحات، التي ستكون منارة للأجيال المقبلة حتى تسترشد بها إلى مجدها وتاريخها، ليس بمنطق شوفيني ولكن بمنطق التعرف على عمق المشترك الذي يجمعهم بمحيطهم الجغرافي وشعوبه المختلفة..
يغادرنا اليوم السي امحمدبوستة، والبلاد لازالت بحاجة إلى قادة ينهضون بشجاعة ومسؤولية بالمهام الوطنية لتعزيز البناء الديمقراطي وصيانة المستقبل الذي لا يمكن أن يكون سوى مشتركا بين أبناء الوطن الواحد، كما هي بحاجة من جديد إلى وحدة القوى الوطنية الديمقراطية لصيانة المكتسبات وفتح آمال وآفاق جديدة للفعل الديمقراطي والمكتسبات الاقتصادية والاجتماعية المترتبة عنها.
بعض أبيات الراحل علال الفاسي:
بني وطني ماذا دهاكُمْ فصِرتمْ
إلى فُرقةٍ مبغوضة وتطاحُنٍ
أعيدوا لهذا الشعب ماضي مجدِهِ
وكونوا لنصر الحق خيرَمُثَابِن
ولا تدعوا الأعداء تعبث بيننا
وتخلق فينا موجِباتِ التباين
فمغربنا في حاجة لاتحادنا
لنكسَبَ حقا ضائعا في التشاجن.
………………………………………
اليوم الأرض بك سعدات
ضماتك كيف بغيتي بالدات
الأرض ستراتك وحباتك
الأرض كرمتيها ف حياتك
زوجتها فلاح .. هذا شعارك .
فقتي بكري .. ما همك اللي فاتجيتي معول كتجري
عارف قيمة الحياة
عارف ما يدوم فيها مخلوق
ياك اللي تزاد يموت .
جيتي بكري .. توضيتي ف بحر الوطنية
وبلا رغبة ، بلا ما تدري
بنيتي عرشك ف قلوب الفقرا
وعشتي ف سما السعادة بلا فيش
وف أرض الوطن كانت حلاوة العيش .
أمير الوطنية أنت بين اخوتك
سبقتي للصبر .. والحكمة خطباتك
وعاشت معاك حتى اخر حياتك
وف مدينة سبعة رجال ارتاح لك البال
وشعل قنديلك مداوي القيل والقال .
أمير الوطنية ..
باش من حروف نرثيك
وأنت أمير الفهم والحكمة
تاريخك معانا شاهد عليك
غادي نقراوه كلمة كلمة ..
تمنيت حرفي يكون قد مقامك
يتلذذ ويروى من حكمتك
لكن رسالتك ف عناقنا باقية
حب وصدق .. نارها كادية .