إيمان راسخ بأهمية تراكم الإصلاحات السياسية والدستورية وبناء مؤسسات قوية تستند إلى الاختيار الحر للشعب المغربي
المس بالمسار الديمقراطي وإعادة إنتاج تجارب التحكم وصناعة الخرائط السياسية يحمل مخاطر جدية على بلادنا
ما يطمح له البعض اليوم هو الوصول السريع إلى دائرة السلطة عبر إلغاء قيم المنافسة السياسية النزيهة
حزب الاستقلال يؤكد أنه سيبقى وفيا لمبادئه الديمقراطية وسيستمر في الرهان على دولة الحق والقانون وعلى دولة المؤسسات
تشبث دائم بمبادئ الدين الإسلامي الحنيف وقيمه المتجذرة في وجدان الشعب المغربي وتعلق بتعاليمه الداعية للتسامح والاعتدال والتعايش
القطبية الحزبية كما تعمل وسائل الإعلام على ترويجها، لن تكون إلا تجربة معاقة وفاشلة تفتقد إلى أبسط شروط المشروعية وإلى أبسط أسباب النجاح
عقد المجلس الوطني لحزب الاستقلال بعد زوال يوم السبت 22 أكتوبر 2016 الموافق 20 من محرم 1438 دورة إستثنائية خصصها لتحديد موقف الحزب من المستجدات السياسية التي أعقبت الانتخابات التشريعية للسابع من أكتوبر. وبتميزت هذه الدورة بالعرض السياسي الهام الذي ألقاه الأخ حميد شباط الأمين العام للحزب ، أعقبه نقاش مستفيض و مسؤول من قبل أعضاء المجلس الوطني، في ما يلي النص الكامل للعرض:
تنعقد هذه الدورة الاستثنائية للمجلس الوطني في ظروف استثنائية تعرفها بلادنا، خاصة بعد استكمال المسلسل الانتخابي الذي امتد زهاء سنة ونصف، وكان استحقاق 7 أكتوبر لحظة فاصلة في التاريخ السياسي لبلادنا، وهي محطة كان للحزب عليها رهان كبير انطلق من التهييئ الجيد الذي ميز أداءنا الجماعي.
لقد أعد الحزب برنامجا مفصلا لامس الكثير من القضايا التي تعتبر جوهرية بالنسبة لبلادنا ورفع شعارا مركزيا في حملته الانتخابية هو “تعاقد من أجل الكرامة” وعيا منه أن كرامة المواطن هي الأصل الذي يَجب على التنمية والديمقراطية ومختلف الإصلاحات، أن تضمنه للمغربي، وأنه بدون كرامة فليس هناك معنى لكل الخطب ولكل التحاليل كيفما كانت منطلقاتها، لقد رفعنا شعار الكرامة، لأن الشعب المغربي قدم تضحيات كثيرة منذ ما قبل الاستقلال إلى اليوم، وتحمل ظروفا صعبة مرت على بلادنا، لكن أن تستمر مظاهر “الحكرة” وامتهان كرامة المغاربة إلى اليوم، فهذا ما لا يمكن لحزب الاستقلال أن يقبله بصفة نهائية، لذلك اعتبرنا أن الكرامة هي أولوية الأولويات، وأنه لا تعليم بدون كرامة، ولا صحة بدون كرامة، ولا عدل بدون كرامة.
لذلك فإننا سوف نظل أوفياء لهذا الشعار الذي نعتبره مسؤولية سياسية وتاريخية لا يمكن لحزب الاستقلال أن يَتَرَاجَعَ تَحَمُّلُهَا كيفما كانت الظروف.
إن البرنامج الانتخابي للحزب كان تعبيرا صادقا عن إنشغالات الاستقلاليات والاستقلاليين، وترجمة أمينة لرؤيتهم لمشاكل بلادنا وللحلول الخلاقة التي يمكن عبرها أن نمنح بلادنا دفعة جديدة وقوية على درب التنمية والعدالة الاجتماعية لتحقيق المجتمع التعادلي الذي شكل ولا يزال، هدفنا الأسمى، لذلك كانت جميع هيئات وتنظيمات الحزب، في مستوى اللحظة والإنتظار، وهنا أنتهز هذه الفرصة لكي أوجه التحية لقيادات وأطر الحزب في مختلف هيئاته و روابطه.
لقد كان عملا موفقا استمر زهاء سنة كاملة، وشكل فرصة للحوار والنقاش بين اختصاصات مختلفة، وأجيال متعددة جابت كل الجهات وعددا كبيرا من الأقاليم، واستضافت وجوها وكفاءات وطنية من مختلف الاهتمامات والإنتماءات، بشكل جسد حقيقة، أن الهدف هو مغرب أفضل يليق بأجياله المختلفة، ويكون عندئِذ آمنا ومؤتمنا على الأجيال المقبلة، مغرب يعتز الجميع بالانتماء إليه.
لقد احتضن الإعلام الوطني البرنامج الانتخابي للحزب احتضانا خاصا، وأفْرَدَتْ له صفحات وتعليقات وتحاليل، لأنه كان جادا وواقعيا وقابلا للتنفيذ، ولأنه جسد فعليا الرؤية المجتمعية للحزب المؤَسِّسَة على التعادلية الاقتصادية والاجتماعية، فكان برنامج الحزب يجمع بين الكفاءة الميدانية المستندة على خبرة سنوات في التدبير، وبين الرؤية السياسية المسؤولة والواضح.
لقد عمل الحزب على اعتماد الديمقراطية الداخلية في اختيار مرشحيه للانتخابات، ولم تسجل أية حالة تم فيها فرض مرشح أو مرشحة على المناضلات والمناضلين، كما لم تشهد مختلف الدوائر خلافات ذات قيمة، وحتى تلك الدوائر التي لم تحسم سوى أياما قليلة قبل فتح باب الترشيحات، فإننا والحمد لله نجحنا فيها جميعا وبدون إستثناء، وهو ما يعني في النهاية أننا قمنا بمسؤولية بالاختيار الأنسب، وعلى مستوى اللائحة الوطنية استمر الحزب في احترام إرادة أعضاء المجلس الوطني للحزب على مستوى الجهات، وكذلك احترام ترتيب الجهات على مستوى الأصوات، وكذلك التقدير السياسي الذي دأب الحزب على إعماله، كما تميزت ترشيحات الحزب بنسبة تجديد مهمة توزعت على الشكل التالي:
لقد أمن الحزب دعما لوجيستيكيا غير مسبوق في الحملات الانتخابية للحزب، بحيث لم تسجل ملاحظات ذات تأثير بخصوص مطبوعات ومنشورات الحزب وجودتها، وتوقيت توصل المرشحين بها، حيث تم تدبير الأمر بصورة جيدة على مستوى المركز العام للحزب، الذي تأسست به إدارة خاصة لمواكبة الحملة الانتخابية و مواكبة المرشحين ومدراء الحملة، كما تحقق عمل كبير على مستوى مختلف وسائل الإعلام، سواء في الدعاية للحزب وبرنامجه الانتخابي، أو في مواكبة عدد من الفعاليات الانتخابية التي كانت موضوع تغطيات واسعة، كما أن الحملة الانتخابية للحزب وبشهادة المنافسين، كانت حملة نظيفة تحترم القوانين ذات الصلة، وتقدم نموذجا يعزز الثقة في الأحزاب السياسية وفي العملية الانتخابية بصفة عامة، كما كان العديد من مرشحينا ومن مناضلاتنا ومناضلينا، ضحايا لممارسات لا تستحق سوى الإدانة والشجب، وهي لازالت موضوع متابعات قانونية.
إن كل هذا الجهد والعمل، لم يكن ليتحقق على أرض الواقع، لولا إلتفاف الاستقلاليات والاستقلاليين على مرشحات ومرشحي الحزب، وبهذه المناسبة أوجه باسمي الخاص، وباسم أخواتكم وإخوانكم في قيادة الحزب، تحية خاصة وعالية لكل من التزم بالخط السياسي للحزب ودافع عن مرشحاته ومرشحيه وبرنامجه، ذلك لا يعني أنه لم تكن هناك تجاوزات وحالات معينة تآمرت على الحزب مع بعض خصومه ومنافسيه، وهي حالات معزولة ستطبق عليها قوانين الحزب لكي تكون عبرة لكل من تخلى عن واجبه ومسؤوليته في الدفاع عن الحزب.
أيتها الأخوات أيها الإخوة؛
لقد وضع الحزب منذ نهاية 2015 نقطة نظام سياسية حول مجمل التحولات والتطورات التي تعرفها بلادنا، وسجل بكل شفافية ووضوح أن المس بالمسار الديمقراطي وإعادة إنتاج تجارب التحكم في المشهد السياسي وصناعة الخرائط السياسية، إنما يحمل مخاطر جدية على بلادنا، ويؤسس للشك عوض اليقين الذي ناضلنا من أجله إلى جانب القوى الوطنية الديمقراطية وقدم في سبيله الشعب المغربي تضحيات جسيمة، ونبه إلى أن ما كان يجري وما كان مخططا له لا يفيد الاستثناء المغربي الذي هو نتيجة لتفاعل المغرب مع ما يجري في العالم، حصل ذلك منذ انهيار جدار برلين وانطلاق مسار المصالحة بداية التسعينات من القرن الماضي، وتجدد ذات الوعي مع ما سمي بالربيع العربي وهو ما مكن بلادنا مرة أخرى أن تنفلت من حالة الفوضى التي تعرفها بلدان أخرى في المنطقة ولازالت مستمرة تعبث بشعوب وحضارات وترهن مستقبل أجيال كاملة.
لقد آمن حزب الاستقلال باستمرار بأهمية تراكم الإصلاحات السياسية والدستورية وبناء مؤسسات قوية تستند إلى الاختيار الحر للشعب المغربي عبر انتخابات نزيهة وشفافة وتنافسية، حيث كان مطلب نزاهة الانتخابات عنصرا أساسيا في مرافعات وأدبيات الحزب لا يقل أهمية عن مطالب الإصلاح السياسي والدستوري التي رغم تحقق جزء منها فإنها تبقى بدون فعالية عندما تصادف مؤسسات تمثيلية تعاني من عجز في منسوب المصداقية ن ولا تعكس التوجهات والاختيارات الحقيقية للشعب المغربي، هذه الوضعية طبعت المسار السياسي ببلادنا منذ أول انتخابات عرفتها بداية الستينات من القرن الماضي وما رافقها وما تلاها من محاولات وجهود للمس بالتطور الطبيعي للحياة السياسية والحزبية، وكما قلنا ونقول اليوم أن كل محاولات إعادة التجارب السابقة لا يعتبر سوى هدرا للزمن السياسي وبالنتيجة هدرا للزمن التنموي وقيام المجتمع المبني على العدالة والإنصاف وسرقة لأحلام أجيال من المغاربة.
لقد آمن حزب الاستقلال ودافع عن ثوابت البلاد عن قناعة راسخة وهو لا يزال على نفس القناعة وسيستمر في الدفاع عن قناعاته ومبادئه، بما يقتضيه الأمر من جدية وصراحة وصدق تجسيدا للقيم الوطنية النبيلة، كما سيظل وفيا لتحليله لحاجات البلاد وبصفة خاصة للديمقراطية على أصولها وكما تبلورت في المجتمعات المتحضرة ولازال التوافق لمصلحة بلادنا يعتبر منهجا واختيارا راسخا.
إن الحزب لا يمكن تحت أي ظرف أن يقبل باستمرار التلاعب بإرادة الناخبين أو يتم استعادة أساليب من الماضي لتدبير قضايا في القرن الحالي، لأن ذلك يعتبر احتقارا لذكاء المغاربة واستهتارا بالتضحيات التي تم بذلها على مدى سنوات، وانتخابات 7 أكتوبر كانت نموذجا لاستمرار هدر الزمن السياسي، وجميع المغاربة كانوا شهودا على واحدة من أسوء الانتخابات التي عرفتها بلادنا حيث خرجت الإدارة التي كان مفروضا فيها حماية تنافسية الانتخابات عن واجبها وعن حيادها، ومست بوضوح هذا الاقتراع الذي كان من المفروض أن يعكس اختيارات البلاد بعد دستور 2011، ورغم أن النتائج السياسية النهائية للانتخابات جاءت على غير ما كان مخططا لها، فإن ذلك لا يمكن أن يحجب الحقيقة التي يعرفها الجميع.
إن تراجع نسبة التصويت وارتفاع نسبة العزوف عن صناديق الاقتراع في بلاد تسعى لتعزيز مشروعية مؤسساتها المنتخبة، وبعد ولاية تأسيسية كاملة، يعتبر مؤشرا مقلقا وخطيرا يسائل تجربتنا الديمقراطية الفتية، ويطرح علامات استفهام جدية على المستقبل، وأي تغافل عن هذا الواقع يعتبر مغامرة غير محسوبة العواقب.
أيتها الأخوات والإخوة؛
لقد قاوم حزب الاستقلال منذ سنة كاملة جملة من الضغوط، وقاوم محاولات تشتيته وخرج سالما موحد الصفوف والكلمة، وكانت له القدرة رغم كل الصعوبات الظاهرة والخفية، على أن يحفظ مكانته في المشهد السياسي والحزبي، ورغم أننا غير راضين عن النتائج التي تحققت في الانتخابات التشريعية، لأنها كانت أقل من طموحنا وتوقعاتنا، فإننا مدركين لجسامة ما واجهناه من تحديات وصعوبات وإستهداف مباشر لمرشحينا ولمن كانت لهم نوايا الترشح باسم الحزب، ومع ذلك إستطاع الحزب الحصول على مقاعد في دوائر جديدة وإستطاع أيضا أن يحافظ على دوائر رغم تغيير المرشحين وكسب دوائر كانت فيها المنافسة على تزكية الحزب كبيرة، كما أننا نجحنا في رفع عدد الأصوات مقارنة مع سنة 2011 رغم تراجع نسبة التصويت، ومع ذلك نأسف لفقدان عدد من المقاعد في دوائر كانت محسومة لفائدة الحزب، وهذا الأمر سيكون موضوع طعون أمام القضاء.
إن قيادة الحزب أجرت تحليلا معمقا وهادئا للنتائج، وللسياق العام لانتخابات 7 أكتوبر، وهنا يمكن القول بأننا أمام تحول بنيوي تعرفه الانتخابات ببلادنا، و أن جزءا كبيرا من الناخبين لم يتوجهوا لصناديق الاقتراع لتقييم نجاعة السياسات العمومية، بل الاصطفاف كان على أساس القطبية المصطنعة التي وجهت الرأي العام لإختيارات سياسية وقيمية، لا علاقة لها بالحصيلة الحكومية، هذه القطبية التي لا وجود لها في المجتمع و لا تعكس طبيعة الواقع السياسي لبلادنا، وهو ما يشكل واحدة من ملامح الإرتباك العام الذي طبع ما قبل الانتخابات وخلال الحملة الانتخابية، بل إمتد إلى ليلة إعلان النتائج.
لكننا مع ذلك بحاجة إلى ممارسة فضيلة النقد الذاتي، وذلك لتمكين حزبنا في المستقبل من القدرة على مزيد من المقاومة، وعلى إستعادة كتلته الناخبة الحقيقية والفئات التي تعبر عنها مبادئه وأفكاره، وهذا الأمر يتطلب إعادة النظر في هيكلة الحزب التنظيمية لمواكبة التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي، وإعادة موقعة الحزب في التجمعات الحضرية الكبرى وخاصة المدن التي تخضع لنظام وحدة المدينة.
أيتها الأخوات والإخوة؛
لقد ذكر بيان المجلس الوطني للحزب المنعقد يوم 21 نونبر 2015، “أنه المؤسسة المخول لها قانونا الحسم في التوجهات والاختيارات العامة المتعلقة بالقضايا السياسية، تبعا لذلك فهو الذي قرر الانسحاب من الحكومة والتموقع في المعارضة بعدما تجلت له حقائق ومعطيات حتمت اتخاذ هذا القرار، وكان القرار يحتم التموقع في المعارضة السياسية ليس أكثر لأنه كان على وعي كامل و مطلق بالمخاطر المحدقة بالحياة السياسية وبالمشهد السياسي الوطني خصوصا من هذا الجانب أو ذاك.
واليوم يعتبر المجلس الوطني أن أسباب التنسيق مع أطراف موجودة في المعارضة على المستوى النيابي انتفت بصفة مطلقة، وأن التنسيق على المستوى السياسي يجب أن يكون محصورا على الأحزاب الوطنية الديمقراطية وهو التنسيق الذي يجد مشروعيته فيما راكمته هذه القوى المناضلة والحية من مكاسب وازنة جدا حققت للشعب المغربي إنجازات تاريخية”، لقد عملت قيادة الحزب على التقيد بهذا التوجه الواضح، الذي يجعل الاصطفاف اليوم هو بين الصف الوطني الديمقراطي من خلال الأحزاب التي تعبر عن إرادة المجتمع، بغض النظر عن بعض الاختلافات الطبيعية التي يمكن أن تحكم علاقاتها، وبين تعبيرات حزبية أخرى يعرف الجميع الظروف التي صنعت فيها، والأولوية اليوم بالنسبة للحزب مشتركة بين الدفاع عن المكتسبات الديمقراطية وتحصين بلادنا من الإنزلاق في متاهات غير محسوبة العواقب، ونجاعة السياسات العمومية التي تحفظ كرامة المغاربة.
ونشيد بهذه المناسبة أيضا بالمؤسسة الملكية التي سارعت إلى إرسال إشارات واضحة على وجوب احترام شفافية ونزاهة الانتخابات، وبادرت إلى تبدّيد غيوم الحيرة التي هيمنت على أجواء المنافسة بين الأحزاب، وأزاحت القلق الذي كان سائدا خلال الحملة الانتخابية وبعدها.
وقد اتضح أن المؤسسة الملكية ماضية من جهتها في طريق تحقيق الانتقال الديمقراطي، وتأكّد ذلك بصفة أكثر وضوحا في حرص جلالة الملك على تنزيل المنهجية الديمقراطية في تعيين رئيس الحكومة، بعد تكليفه للأمين العام لحزب العدالة والتنمية المتصدر لنتائج الانتخابات بالتفاوض من أجل تشكيل الحكومة الجديدة.
وفي المقابل نسجل في الحزب، قلقنا الكبير من تراجع نسبة المشاركة مقارنة مع سنة 2011، والاتجاه العام لضعفها، وهو ما يستدعي مستقبلا التعاطي مع هذا الموضوع بالجدية اللازمة من طرف الجميع، وذلك لتعزيز مشروعية المؤسسات المنتخبة بصفة عامة، ومؤسسة مجلس النواب بصفة خاصة، حيث يجب أن يستمر الرهان على دولة المؤسسات.
إن حزب الاستقلال أكد ويؤكد مرة أخرى، عدم ارتياحه من كل الممارسات التي تناقض أبسط المبادئ الديمقراطية، وتتنكر لأيسر الأعراف السياسية، وإدانته للتجاوزات المقصودة التي تسيئ للجهد الجماعي الذي بذل منذ عقود، والتي كان من المفروض أن تكون محسوبة على الماضي المنسي، ويعلن رفضه لمناورات أخر ساعة ومحاولات الالتفاف عل الإرادة الشعبية التي لا تعمل سوى على بث اليأس لدى عموم المواطنين، وعلى التشكيك في جدوى العمل السياسي، وعلى المس بمصداقية الاستحقاقات الانتخابية، و على تشويه صورة الأحزاب السياسية، وعلى إضعاف هيبة الدولة، وعلى عرقلة مسلسل الإصلاحات السياسية والدستورية التي عرفتها بلادنا، والتي قدمت من أجلها تضحيات جسيمة.
أيتها الأخوات أيها الإخوة،
في الوقت الذي نسعى فيه لوضع الأسس القانونية المتينة للارتقاء بالممارسة السياسية، وفي الوقت الذي نسعى فيه لتنزيل المقتضيات الدستورية تنزيلا مرنا، ووضع الضوابط الموضوعية لإغناء تجربتنا الديمقراطية واللحاق بنادي الدول الديمقراطية، وفي الوقت الذي نحاول فيه تخليق المشهد السياسي، وترشيد السلوك الانتخابي، يسعى البعض الآخر إلى اختزال المسافات، والاشتغال خارج الضوابط القانونية، وإلى ممارسة الضغط النفسي على المواطن بدل الإقناع، والتأثير عليه بأساليب بديئة، لا تنسجم مع الأخلاق الديمقراطية.
إن ما يطمح له البعض اليوم، هو الوصول السريع إلى دائرة السلطة، عبر إلغاء قيم المنافسة السياسية النزيهة، وعبر تجاوز التدافع الانتخابي المشروع، وعبر إفراغ التعددية الحزبية والسياسية من روحها ومحتواها، وعبر إفراز مؤسسات وطنية مخدومة ومفصلة على المقاس، ومن ثم العودة إلى أساليب الهيمنة والاستبداد والتحكم، التي لا يمكن أن تنضج التجربة الديمقراطية لبلدنا، ولا يمكن أن نتوقع نتائجها الخطيرة على الانتقال الديمقراطي وعلى الاستقرار الاجتماعي.
في ظل هذا الوضع، يؤكد حزب الاستقلال لمن يحتاج إلى تأكيد، أنه سيبقى وفيا لمبادئه الديمقراطية، وسيستمر في الرهان على دولة الحق والقانون وعلى دولة المؤسسات، وسيعمل جاهدا بمعية الأحزاب الديمقراطية على تطوير الحياة السياسية لكي تفرز مؤسسات وطنية تقوم على أساس التمثيل الديمقراطي النزيه، الذي يعكس إرادة الشعب بكل صدق، ويبرز اختيار المواطنين بكل أمانة. وذلك لتعزيز مشروعية المؤسسات المنتخبة بصفة عامة، ومؤسسة مجلس النواب بصفة خاصة.
ويعلن الحزب أيضا عن تشبثه بمبادئ الدين الإسلامي الحنيف وقيمه المتجذرة في وجدان الشعب المغربي، وعن تعلقه بتعاليمه السمحة، الداعية للتسامح والاعتدال والتعايش، وأبعاده الأخلاقية النبيلة، كما تصورها وعاشها سلفنا الصالح. فلقد كان مناضلو الحزب الأوائل، من رجالات الإسلام الكبار، وكانوا من الرواد الذين بنوا النهضة الحديثة بكل تجلياتها الوطنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على أسس تتمثل مقاصد الشريعة الإسلامية.
وكان زعيم الحزب علال الفاسي، علامة مجاهدا من الذين حملوا لواء الدعوة والإصلاح، ودافعوا بعقلانية عن الشريعة، وبرهن على مواكبتها للعصر وسبقها للتطور الحضاري. لقد كان رحمه الله من الفقهاء الحداثيين والمتنورين والمجددين، الذين أسسوا لفقه المقاصد، وأفتوا في مستجدات الأمور، واجتهدوا في قضايا العصر.
وقد تميز الحزب منذ تأسيسه بتصوره الشمولي، الذي يربط بين التمسك بالدين وبين التحرر من الاستعمار، والوحدة الوطنية، والتقدم الاقتصادي، والتحرر الاجتماعي والسياسي. وقد بنى الحزب مشروعه المجتمعي على تحقيق النهضة الفكرية، التي يدعو إليها الدين الإسلامي، وجعل منها شرطا أساسيا لتحقيق كل الأهداف الأخرى.
كما أن السلفية التي اعتمدها الحزب إبان الكفاح الوطني، تدخل في إطار مشروعه التحرري والإصلاحي، وتتميز ببعدها الوطني الاستقلالي، واستشرافها المستقبلي والتحديثي للمجتمع والدولة، ذلك أن سلفية الحزب كانت علمية معتمدة على نصوص الكتاب والسنة، وعلى المقارنة بين مفهوم هذه النصوص وبين الواقع المعيش في المغرب، وكانت تهدف إلى تحرير العقل والسلوك معا، ولذلك ربطت أدبيات الحزب في الكثير من تحليلاتها بين التخلف الفعلي، والبعد عن الدين.
وهكذا فالكثير من هذه الأفكار أوردها علماء حزب الاستقلال في كتاباتهم، وعلى رأسهم الزعيم علال الفاسي، الذي تتسم كتاباته بالجدية في التفكير والطرح، والنظرة الاجتهادية في تبني المبادئ الحَدَاثِية، ما دامت هذه المبادئ تحقق المصلحة العامة، لأن غاية المقاصد الشرعية هي تحقيق المصالح والمنافع للناس.
وهذه الرؤية التَّجديدية هي التي طبعت وستظل تطبع منهجية تفكيرنا، وهي التي جذبت للحزب العديد من الكفاءات الفكرية والدينية، التي التحقت بالحزب لتطوير مشروعه الإصلاحي ولمواصلة البناء الفكري المتنور في هذا المجال، ولإتمام ما بدأه سلفنا الصالح.
أيتها الأخوات أيها الإخوة،
من الأعراف الراسخة في تقاليد الحزب، هو اتخاذه من دورات المجلس الوطني، مناسبة متجددة للتذكير بالمبادئ السامية والقيم الخالدة، التي بنيت عليها عقيدة الحزب، والدعوة إلى التعلق بهذه المبادئ والقيم، وفرصة للتذكير بالثوابت الدينية والوطنية والمثل العليا، مع تأكيد ضرورة المحافظة عليها. وتعتبر هذه المجالس أيضا مدرسة لتلقين مضامين الوطنية الصادقة، والحث على الثبات عليها والالتزام بها، ولإشاعة معاني التضحية والبذل والعطاء بين المناضلين، وحثهم على الاغتراف من معينها، والتزود منها، من أجل مواجهة كافة التحديات، واكتساب القدرة على تحمل جميع الأنواع من المسؤوليات.
إن لقاءات المجلس الوطني هي أيضا مناسبة لاقتباس نماذج الأُسوة الحسنة، من سيرة الرواد الأوائل، ومن نضالهم الطويل، ومسيرتهم الجهادية الخالدة وهي نماذج نستلهم منها العبر، ونستخلص منها الدروس ونستمد من وهجها الطاقة ونقتبس من شموخها الإباء ونُراجع على ضوئها خريطة الطريق ونُجدِّد العزم على مواصلة المسير، لأداء الأمانة التي طوقوا بها أعناقنا، ولإتمام الرسالة التي آمنوا بها وضحُّوا من أجلها، وسلموا لنا مِشعل مواصلة تبليغها حفاظا على سيادة الشعب المغربي وكرامة المواطن المغربي.
فالمؤسسة الحزبية إذ تُذكر بأمجادها، وتحكي فصول تاريخها، فإنما تريد أن تجعل منه مادة أساسية في تكوين وتأطير مناضليها، ليستلهموا منه عند الحاجة، لأن التاريخ يعتبر من الأسس التي ترتكز عليها مقومات الوجود.
أيتها الأخوات أيها الإخوة؛
تعد دورات المجلس الوطني أساسا مناسبة لاستشراف آفاق المستقبل الواعد، فما زال أمامنا الكثير من المسافات التي يجب قطعها، ولا زالت تنتظرنا الكثير من الأهداف الواضحة التي نتطلع إلى تحقيقها في المراحل القادمة، ولازالت بين أيدينا الكثير من الملفات والقضايا التي يجب تشخيصها ومناقشتها والحسم فيها، ولازالت تتربص بنا الكثير من المشاكل التي يجب الانكباب عليها بما يلزَم من الحزم والعزم، ولا زالت تؤرقنا الكثير من الإكراهات التي يحب التفكير في تجاوزها.
لاشك أن طموحنا أكبر بكثير ممَّا تم إنجازه حالياً، ولاشك أننا نتطلع دائماً نحو ممارسة أرقى، ونحو منجزات أكثر، ونحو غد أفضل، مادام المواطن الذي نُمثله ونَخدمه تزداد متطلباتُه باستمرار، وتتنوع حاجاته بشكل يومي وتكبر طموحاته مع أي تطور، ولهذا فالعمل السياسي أصبح عملا لا سقف له، ولا حدود له، خصوصا أمام التحولات الكبرى التي أصبح يشهدها العالم، والتطور المذهل الذي يجب مواكبته.
ومن هذا المنطلق فإن الخطط المستقبلية التي نفكر فيها كثيرة، وستُعرَض بالتدرج على مجلسكم الموقر ليقول كلمته فيها.
أيتها الأخوات أيها الإخوة؛
إن مجلسكم الوطني هذا كان قد قرر بكل وضوح أن معاركه القادمة هي حماية مكتسبات الإصلاح السياسي والدستوري التي قدم بشأنها رفقة تيارات سياسية أخرى تضحيات جسيمة، وهي صيانة التراكمات التي عرفتها بلادنا والتي تحققت بفضل جهاد مناضلين أفذاذ.
واليوم تتاح لنا فرصة تاريخية لفرز القوى الديمقراطية عن باقي التعبيرات التحكمية والتسلطية التي تم توليدها في ظروف يعرفها الجميع، والتي جاءت فقط من أجل تشويه المشهد السياسي وخلق تعددية حزبية شكلية ووهمية، مفرغة من شحنتها السياسية وفاقدة لأي مضمون مجتمعي.
أيتها الأخوات أيها الإخوة؛
وفي هذا السياق، وبمبادرة مشتركة بين حزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وفي إطار وعيهما بالدور المنوط بهما تاريخيا، عقد اجتماع مشترك بين اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال والمكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي من أجل بحث آخر التطورات التي تعرفها بلادنا، والتطرق للمستجدات التي تشهدها الساحة السياسية التي أضحت تعرف تراجعا خطيرا عن المسيرة الإصلاحية ومناقشة التحديات التي تعوق الإصلاح الديمقراطي وتحول دون وصوله إلى مداه، وتشوه المشهد الانتخابي بالمغرب.
وتطرق الحزبان لمسألة الهجمة الشرسة وغير المسؤولة التي تتعرض لها الأحزاب الوطنية، والتي تكشف بكل أسف عن أزمة عميقة في تدبير الانتقال الديمقراطي ببلادنا، وعن عجز في استيعاب مضامين خطاب 9 مارس ومقتضيات دستور 2011، وعن ضعف في القدرة على قراءة التحديات التي تواجهها البلاد في محيط إقليمي وجهوي مضطرب، ومرشح لمزيد من الاضطراب والفوضى.
وعبر الحزبان عن اقتناعهما بأهمية العمل المشترك الذي يعتبر اليوم أكثر من أي وقت مضى أمرا ضروريا وأساسيا ومهما لتحصين البلاد، وحماية الاختيار الديمقراطي من كل المخاطر، باعتبار هذا الاختيار هو الشرط الضروري واللازم لدخول المغرب زمن السياسة، وزمن ترشيد الاختلاف، وزمن حرية التعبير والتداول السلمي على السلطة، وزمن فصل السلط وتوازنها. وبالتالي استيفاء الشروط الضرورية لتأهيل حياتنا السياسية من أجل الدخول المشرف لنادي الدول الديمقراطية.
وقد أثار الحزبان في معرض حديثهما عن الظرفية السياسية الحالية، الظهور المُباغث لما أصبح يطلق عليه إعلاميا القطبية سياسية، وهي ظاهرة إعلامية مفبركة ما أنزل الله بها من سلطان.
واعتبر الحزبان أن المراهنة على قطبية مفبركة، ليست إلا وسيلة لتهميش القوى الوطنية ذات القيمة التاريخية والاعتبارية، وذات المسار النضالي الحافل، وذات الحضور الشعبي الوازن، وليست إلا حيلة مكشوفة لإرساء دعائم الوافد الجديد، على حساب أحزاب الحركة الوطنية باعتبارهم شركاء محتملين غير مرغوب في مصداقيتهم وصِدْقِيَّتِهِمْ في تدبير شؤون الدولة، وليس إلا محاولة يائسة لتفويض أي فعل حزبي جاد، يمثل صوت الشعب، للانفراد بالقرار السياسي، وبلورته حسب رؤى خاصة وخدمة لمصالح خاصة.
كما أؤكد لكم الأخوات والإخوة أن اللقاء الذي جمع السيد رئيس الحكومة المكلف من طرف الملك بالمفاوضات من أجل تشكيل الحكومة المقبلة وبين اللجنة التي تشكلت من الأمين العام للحزب ومن الأخوين محمد الموساوي السوسي والسيد حمدي ولد الرشيد عضوي اللجنة التنفيذية مر في جو أخوي إستحضر فيه الجانبان المصلحة العليا للوطن المتمثلة في الإصلاحات الجوهرية، والإلتزام بنتائج الانتخابات التشريعية لـ 7 أكتوبر مع احترام تام لإرادة الشعب المغربي.
إن القطبية الحزبية كما تعمل وسائل الإعلام جاهدة على ترويجها، لن تكون إلا تجربة معاقة وفاشلة تفتقد إلى أبسط شروط المشروعية وإلى أبسط أسباب النجاح، وليس لها أي أفق ديمقراطي حقيقي، بل تتجه فقط نحو التراجع عن المكتسبات الديمقراطية، وتجر البلاد بغير وعي نحو المجهول.
أيتها الأخوات أيها الإخوة؛
إن حزب الاستقلال مع تشبثه باستقلالية قراراته، يعلن استمراره في مسلسل تطوير نموذج التحوّل الديمقراطي الهادئ، في ظل وضوح تام للرؤيا وفي ظل الاستقرار.
ويعتبر أن الاستقرار هو مجهود جماعي واعي، تؤطره الحكمة التي يجب أن تظل أكبر من الخلافات السياسية، وأن هذه الأخيرة يمكن تدبيرها بصورة طبيعية وسلسة في ظل نظام ديمقراطي حقيقي، وهذا النظام لا يمكن أن يكون صلبا ومتينا سوى بالاعتراف المتبادل بين أبناء وبنات الوطن الواحد، ولا يمكن أن يكون فعالا إلا بالحوار السياسي المسؤول بين مختلف الفعاليات الوطنية، مهما اختلفت مرجعياتهم واختياراتهم، ولا يمكن أن تدبر مراحل هذا التحول إلا حكومات سياسية مائةً في المائة.
وإيمانا من الحزب بأن الطبيعة لا تقبل الفراغ، وأن العمل السياسي المسؤول لا يقبل المقعد الفارغ، ووعيا منه بأن المغرب يجتاز اليوم مرحلة تاريخية ومفصلية في مسيرة البناء الديمقراطي، يجب التفاعل معها بطريقة إيجابية وبحنكة سياسية لإنجاحها، وإيمانا منه بأن نجاح هذه المحطة سيُمكن المغرب من تحقيق قفزة ديمقراطية نوعية أكيدة.
ونحن اليوم نَرجع للمجلس الوطني لتحديد المعالم المستقبلية لعملنا الحزبي، ولاشك أنكم ستكونون موفقين في قراراتكم، وستكونون في مستوى انتظارات مجموع المناضلين، وستُضيفون إلى سجل تاريخنا الحافل صفحة مضيئة جديدة، تترجمون فيها بعد نظركم واستقلالية قراركم، وستجدون في إخوانكم باللجنة التنفيذية، المنفذين لقراراتكم بكل ما يستلزم ذلك من صدق وإخلاص ومثابرة.
أيتها الأخوات أيها الإخوة؛
أخيرا وليس آخرا يعتبر يوم 7 أكتوبر المشؤوم نكسة حقيقية للديمقراطية المغربية الفتية، كاد أن ينتقل فيه المشهد السياسي المغربي من مشهد طبيعي يشتغل بمنطق أحزاب السلطة إلى مشهد كارثي تهيمن عليه سلطة الحزب. وستبقى أهم إفرازات هذا اليوم هو الرقم 102 الذي دخل التاريخ من بابه الخلفية، وسيحتفظ به الدارسون والمحللون كوصمة عار في جبين الانتخابات المغربية.
ولكن أعدكم أننا سنبقى مجندين ومستعدين للتضحية بالغالي والنفيس لإيقاف مشروع سلطة الحزب دفاعا على دولة المؤسسات.
وفقكم الله وسدد خطاكم وأعانكم على تحمل المسؤولية المنوطة بكم و“إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يوتكم خيرا”.
صدق الله العظيم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته